المقالات

مشروع الجزيرة

Gezira: A story of Development in the Sudan Arthur Gaitskell

الجزيرة إسم يطلق علي المثلث من الأرض الواقع جنوب الخرطوم بين النيل الأبيض والنيل الأزرق. وهي مساحة من الأرض الخصبة تبلغ نحو ثلاثة ملايين فدان. وقد كانت, حتي قيام الحكم الثنائي الإنجليزي- المصري, تروي بالأمطار وتزرع غلالا ويعتمد عليها القطر في سد حاجياته من الغذاء. ثم بني خزان سنار في سنة 1925, وتدفق ماء النيل في هذه الأرض فتحولت من زراعة المحاصيل الغذائية إلي زراعة القطن الذي أصبح اليوم المصدر الرئيسي لثروة السودان.
وقصة هذه التجربة الفريدة هي القصة التي يرويها آرثر جيتسكل في كتابه (الجزيرة). وهو أهل للقيام بهذه المهمة خير قيام, إذ أنه بدأ العمل في الجزيرة سنة 1923 حين كانت الأرض تروي بالمضخات, ثم زامل مشروع الجزيرة منذ بداية تكوينه, فشغل عدة مناصب في شركة المزروعات السودانية التي كانت تشرف علي المشروع. وحين أمم المشروع سنة 1950, كان أول رئيس لإدارة هيئة مشروع الجزيرة.
ويتحدث المؤلف في الفصول الأولي من الكتاب عن أهداف الحكم الثنائي في السودان, تلك الأهداف التي كان مشروع الجزيرة اجدي ثمارها. وهذه الأهداف يلخصها سير رجينالد وينجت, حاكم السودان العام بين سنة 1900 وسنة 1916, في تقرير له فيقول: « المهمة التي أخذتها حكومة السودان علي عاتقها هي , قبل كل شئ, جلب فوائد الحضارة للسكان, وذلك لتهيئة سبل الأمن لهم بقدر ما هو ممكن, حتي يضمنوا سلامة أشخاصهم وممتلكاتهم, وبتحسين المواصلات في هذه الفيافي والقفار التي تفصل بين الأماكن التي يتجمع فيها السكان ويتيسر فيها العيش, وبزيادة اخصاب الأرض الغنية أصلا عن طريق الري الصناعي مما يناسب الظروف المختلفة التي تسود شتي أماكن هذا القطر الشاسع, وأخيرا, وبالإضافة إلي الملاحة النيلية والسكك الحديدية التي تصل السودان بمصر, إنشاء ميناء ومرفأ علي البحر الأحمر, يسهل الوصول اليه داخل القطر, مما يتيح للسكان استيراد حاجياتهم من الخارج بأسعار معتدلة, ويمكنهم من ايجاد اسواق في الخارج لمنتجاتهم».
وسرعان ما اكتشف وينجت إماكنية إستثمار أرض الجزيرة لرفع مستوى المعيشة في القطر. وانتهت الحكومة بعد دراسة وتمحيص الي أمر بناء خزان علي النيل الأزرق. ولكن من أين تأتي الحكومة بالمال اللازم؟
ويتابع المؤلف فصول القصة وحتي يتم بناء الخزان ويقوم مشروع الجزيرة بمساهمة بين شركة إنجليزية وحكومة السودان والمزارعين. وهو يصف كيف تغلبت الحكومة علي صعوبة إيجاد المال للازم بمعونة كل من بريطانيا ومصر علي الأخص, وكيف زالت الصعوبات الهندسية والإدارية. لكن المؤلف يبدع حين يصف كيف تغيرت حياة الناس العاديين بظهور هذا المشروع, حتي ليخيل للقارئ انه يقرأ رواية شائقة حين يتعرف مع الكاتب علي سكان قرية معينة في الجزيرة, قرية الطلحة, التي تبعد عن ود مدني, عاصمة الجزيرة, نحو عشرة أميال. والطلحة قرية صغيرة تقوم في منخفض من الأرض تتجمع فيه مياه الأمطار, ولهذا فهي محاطة بغابة من شجر الطلح, تتوسطها قبة بيضاء هي قبة الشيخ أحمد الطريفي, وينتمي سكانها إلي قبيلة العركيين. كيف تم تسجل الأرض؟ وكيف أعيد توزيعها؟ كيف واجه السكان المشاكل الإدارية التي لم يعهدوها من قبل؟ أي نوع من الإداريين البريطانيين وفدوا علي تلك الأرض الخلاء جنوب الخرطوم» وكيف إستطاعوا أن يواجهوا تلك الظروف الجديدة في مجتمع مختلف كل الإختلاف عن مجتمعهم الأوروبي؟ يقول عنهم جيتسكل: « اغلبهم جاءوا (إلي السودان) بغية الحياة الحرة في الريف في سركة متطورة ومتوسعة. ولم تكن الوظيفة تتطلب ثقافة واسعة بقدر ما كانت تتطلب من حيوية جسمانية, وأمانة, وقدرة علي التنفيذ, ومزاجاً مرحاً, وتسامحاً في الطبع, ومقدرة علي حث الناس علي العمل والمشاركة معهم». والكاتب يعتبرالعنصر الإنساني في غاية الأهمية, ولا تخلو صفحة من صفحات الكتاب من صورة حية «لإنسان», سوا كان بريطانيا أو سودانيا, وعلاقته بمشاكل تطور الأرض. وهذا هدف يوضحه المؤلف منذ البداية في مقدمة الكتاب, وينفذه بأمانة في فصول الكتاب المتعاقبة, فيقول: «الناس والأرض معا خلقا تجربة فريدة في ميدان من أهم الميادين التي تشغل الناس في عصرنا هذا: ذلك هو محاولة رفع مستوي الحياة في البلاج المتخلفة».
والفصول الأخيرة من الكتاب طريقة مثيرة بوجه خاص. فبعد عام 1950 أمم مشروع الجزيرة. ومع أن التكوين الإداري للمشروع لم يتغير, إلا أن تطور الحوادث في القطر عامة وسع معناه وأهميته. لقد أصبح السودان في تلك السنوات يقترب حثيثا من الإستقلال. لهذا فقد أصبح مشروع الجزيرة أمراً أهم من مغامرة إقتصادية ناجحة. لقد أصبح قبلة أنظار البلد كله إذ أن رفاهية القطر المستقل ستقوم عليه. وهو فوق هذا المحك لتجربة مقدرة السودانيين علي صريفهم أمورهم. ومرة أخرى ينفذ الكاتب إلي العنصر الإنساني وراء التجربة, ويتحث في فصل عن «الديمقراطية المختلطة وغير المختلطة» وعن السودانيين الذين قفزوا إلي المناصب الكبرى في المشروع, وأصبح واضحاً أنهم سيخلفون الإدارة الأجنبية, رجال أمثال مكي عباس الذي إستوعبته الجزيرة بعد خبرة طويلة في وزارة المعارف, ومحمد عمر أول رأئد لتعليم الكبار في الجزيرة, وعمر محمد عبدالله الذي صار أول ضابط للعلاقات العامة, وسليمان بخيت, محرر مجلة «الجزيرة».
ويحكي الكاتب أيضا قصة «الخدمات الإجتماعية» في الجزيرة. وهي قصة فريدة في ذاتها, ونجاحها يوضح بجلاء نجاح تجربة مشروع الجزيرة كله. أن 20% من دخل القطن السنوي يخصص للخدمات العامة, وهي تشمل الصحة والتعليم والترفيه, وتقوم علي أساس فهم الناس أنفسهم لحاجياتهم والعمل علي سدها تحت إرشاد المسئولين في المشروع.
وبعد أن يسرد المؤلف قصة الجزيرة ونجاحها في وضوح, يثير المشكلة الرئيسية التي تعتبر «الجزيرة» جزءاً منها: مشكلة مساعدة الدول الغنية للشعوب الفقبرة والأخذ بأيديها نحو مستقبل أفضل, دون قيود أو شروط, علي أسس من الإحترام والمساواة والثقة المتبادلة

**نشر في مجلة الأصوات – العدد الأول التي تصدر في لندن عام 1961

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى