المقالات

حُميد ضمير أمة

أخذ مقعده في الحافلة المتجهة من السوق الشعبي إلى السوق العربي ، وهو عائدٌ يجرجر أذيال الخيبة من رحلة بحثه اليومية عن مصدر رزق ، يحاول من خلاله التكسب لأجل رد نذراً يسيراً مما طوقته به أسرته من إيثار ونكران ذات .. حيث صامت عن الزاد حتى توفر له مصاريف الدراسة وجعلت من أجسادها قضباناً حتى يمر عليها قطار تعليمه ويصل بأمان إلى محطته الأخيرة.
أطال النظر مليّاً إلى ما يحمله من ظرف بلاستيكي بين يديه ، كان قد حوى كل مؤهلاته العلمية .. وهو يقول في نفسه .. هذا الظرف على الرغم من خفة وزنه إلا أنه في الواقع يساوي إجمالي قيمة الرواتب الشهرية التي تقاضاها والدي منذ إلتحاقي بالدراسة في 15/06/1988م وحتى تاريخ تخرجي من كلية التجارة قسم المحاسبة في 20/12/2003م .. يساوي حزمة من سنين عجاف إستأثرت فيها بحقوق إخوتي وحرمانهم من ملذات الحياة في سبيل تلبية متطلبات دراستي .. كما أن هذه الشهادات التي تزيّن حوائط منزلنا المتواضع لن يكون في مقدورها إسكات ضجيج البطون الفارغة أو سد رمق الجياع .. كما أنها لا تمثل عملة صعبة أو لديها خاصية التحول إلى نقد .. لذلك فهي من منظور إخوتي الصغار لا فرق بينها وبين إعلان ترويجي لمنتج تكسوه طبقة من الغبار الناعم بأرفف حانوت قديم دلالة على كساده .. أفاق فجأة على صوت فرقعة أصابع الكمساري طالباً أجرة النقل .. وهي تختلط بسيلٍ من مأساة ٍ أخرى منسابة عبر سماعة الكاسيت..

أمونة الصباح قالتلو النعال والطرق إنهرن ..
ما قالتلو جيب .. ما قالتلو جيب .. شيلن يا الحبيب غشهن النقلتي والترزي القريب..
بس يا أم الحسن طقهن آبفيد .. طقهن آبزيد .. إنطقن زمن .. وإنطق الزمن ولازمك توب جديد .. وبأي التمن .. غصباً للظروف والحال الحرن ..

الكمساري ما زال بعيداً .. لذلك فضّل متابعة التأمل في ثنايا مأساة العم عبد الرحيم وخذلان الظروف له وهو العفيف الأبي .. مأساة شبيهة بمأساته .. تختلف في أسماء شخوصها وأزمنتها وأمكنتها ، إلا أنهما تتفقان في قاسم مشترك واحد ، هو أن تحيا كريما مهما كان زمانك قذرا ، ثواني معدودة مرت كي يفسد عليه الكمساري خلوته رغم وجوده وسط زحام الحافلة وهمهمة الركاب وهم يتجاذبون أطراف الحديث مع بعضهم البعض ..
تحسس جيبه ليخرج ما فيه من جنيهات معدودة ، إلا أنه في تلك اللحظة إلتفت ليرأى زميل دراسة سابق يجلس بالمقاعد الخلفية ، فأدار وجهه على نحو مباغت قبل أن يفطن إليه هذا الزميل ويدخله في حرج سداد الأجرة عن شخصين وهذا سيكلفه مشقة السير من إستاد الخرطوم حتى شارع الأربعين بأم درمان حيث يسكن وذلك لعدم كفاية مافي جيبه من نقود .. أو أن يتباطأ لينوب عنه زميله في تحمل تكلفة النقل ، وهذا الخيار الأخير ما لا يستطيع غفرانه لنفسه فيما بعد لأنه كان يجلس في مركز متقدم في المقاعد الأمامية ..

… وقال أصيحابي الفرار أو الردى .. فقلت أمران أحلاهما مرُ..
.. ولكني أمضي لما لا يعيبني .. وحسبك من أمرين خيرهما الأسرُ..

في تلك اللحظة من التنازع بين القفز إلى زورق المروءة أو التردي إلى هاوية الخذلان ، كان العم عبد الرحيم قد حسم له هذه الجدلية ، حين لخص مكنون هذه الحياة في سطر واحد فقط ..

.. وإيه الدنيا غير .. لمة ناس في خير .. أو ساعة حزن ..
حينها فقط ..أغرق يده في جيبه وأفرغ ما فيه من جنيهات مهترئة ودفع بها نحو الكمساري في شموخ قائلاً : نفرين ، في الوقت الذي أشار فيه لزميله بتكفله بسداد الأجرة عنه .. فرحاً بحفظه لماء وجهه الذي كاد أن يُراق .. فرحاً بإنتصاره على الظروف والخوف .. غير آبه لما ينتظره من مسيرة ساعات على الأقدام في ظل عودة الروح القوية لنفس كالجبال السوامق .. نزلا عند آخر محطة ، وقبل أن ينصرفا شكره زميله على صنيعه .. بادله هذا الإمتنان بإبتسامة رضاء وقناعة .. وهو يقول في نفسه .. جديرٌ بك أن تشكر حُميد هو من قام بسداد الأجرة ..

زر الذهاب إلى الأعلى