المقالات

في نيروبي

الجزء الثاني:

هبطت الطائرة في نيروبي ونزلنا متوجهين لصالة الجوازات حيث اصطف المسافرون لانهاء اجراءت الجوازات والدخول .. كانت تلك المرأة المسنه تقف خلفي ويفصل بيننا شخص بمسافة سمحت لي مبادلتها السلام والتحيه لكن الوقت والمكان لم يكونا يسمحان بالتعارف أو عرض المساعده فقلت في نفسي حسناً سأري في الخارج ان وجدت شخص ينتظرها فالحمد لله وان لم يكن هنالك شخص ينتظرها فسأستأذنها وأعرض عليها المساعده .. في الجانب الاخر أمامي بشخصين او ثلاثه في صف الجوازات كان يقف شاب سوداني في العقد الثالث او بداية الرابع من عمره، وصل الشاب الي ضابط الجوازات وبدأ الضابط يوجه له سؤال باللغه الانجليزيه ويكرره عن عدد الايام التي سيقضيها في نيروبي ولكن يبدو ان الشاب لم يفهم السؤال فكرره الضابط اكثر من مرة وحاول توصيل المعني له لكن الشاب لم يستطع فهمه وأخذ يلتفت نحو الصف كأنه يطلب الاستغاثه من اي سوداني او سودانيه وكذلك الضابط نظر نحو الصف ثم الي الشاب فأدركت أنا حينها انه ايضاً يفكر في ما يفكر فيه الشاب وعندها تقدمت خطوات نحوهما فأعاد الضابط السؤال وقمت بالترجمه ورجعت مكاني في الصف، في تلك اللحظه قلت في نفسي اذا لم يستطع هذا الشاب فهم السؤال والاجابه بسبب حاجز اللغه فلا بد من التدخل وعرض المساعدة علي السيده المسنه التي تقف خلفي لأنها حتماً لن تستطع الاجابه هي كذلك و عندما يأتي دورها سأكون غادرت الصاله ولا اعلم ان كانت ستجد من سيساعدها، وبالفعل رجعت خطوات نحوها وقلت لها (يا حاجه، الضابط دا حا يسألك عن الفترة البتقضيها في نيروبي فلو ما عرفتي تجاوبي بالانجليزي ممكن بس توريه عدد الايام بأصابع يديك)، فور انتهاء شرحي لها ابتسمت بلطف وشكرتني بصورة زادتني غبطة وطمأنينه وشعور بأنني قمت بواجبي ولم أقصر ومن ثم رجعت لمكاني في الصف وانهيت اجراءات الدخول وعبرت للخارج .. كان هنالك كثير من المستقبلين في الخارج ولم الحظ من بينهم سوداني واحد أو سودانيه فوقفت بينهم انتظر خروج السيده المسنه حتي أري ان كانت تحتاج لمساعده، ولعلي انشغلت قليلاً فخرجت السيده المسنه دون أن أراها .. فظللت واقفاً لبعض الوقت ادركت بعده أن هذه السيدة قد خرجت وربما استقبلها أحد أقاربها و ذهبوا لوجهتهم داخل كينيا .. توجهت أنا بدوري للفندق الذي يقيم فيه المشاركون في المؤتمر ويقع في منطقه جميله وسط العاصمه نيروبي وقضيت بقية اليوم في استطلاع المنطقه حول الفندق ثم لملمة الأوراق والاستعداد للمؤتمر في اليوم التالي .. صحوت مبكراً في ذلك اليوم وبعد افطار سريع توجهت نحو القاعة التي يقام فيها المؤتمر وهي في نفس الفندق الذي يقيم فيه المشاركون .. دلفت الي القاعة الضخمة التي اتسعت لعدد كبير من الاقتصاديين وعلماء الاحصاء والسكان والدراسات الاجتماعيه والتنموية ، جمع غفير من المشاركين جاؤوا من مختلف انحاء العالم للمشاركة وعرض تجاربهم وأوراقهم العلميه ..
وبينما المشاركون يتوافدون للقاعة والجلسة لم تبدأ بعد كنت أنا كعادتي أنظر حولي أتفحص الوجوه لأري ان كان هنالك من أعرفه من الزملاء والأصدقاء القدامي الذين تفرقوا في اصقاع الدنيا، فعادة ما التقي في مثل هذه المؤتمرات بزملاء واصدقاء قدامي لم ارهم لسنين عددا فنستعيد بعض الذكريات ونجدد التواصل، ولكني لم اجد احد اعرفه .. بعدها توجهت نحو مقعدي، وبما أن ورقتي تم برمجتها لتقدم في الجلسة الاولي التي تلي جلسة الافتتاح مباشرةً اخترت الجلوس في الصفوف الاماميه حتي اكون قريب من المنصة الرئيسية، جلست والقيت نظرة سريعة علي المنصة الرئيسية أمامي ولم اتبين جيداً ملامح من يجلسون عليها، أعددت مكاني واعتدلت في جلستي وهيأت اوراقي ثم عدت بنظري للمنصة الرئيسية للمؤتمر وكان هول مفاجأتي .. وضعت نظارتي ثم خلعتها ثم وضعتها وكأني لا أصدق عيني .. انها نفس المرأة المسنة التي كانت معي في الطائرة .. تجلس بين المتحدثين في الجلسة الافتتاحية .. هذه الجلسة يتحدث فيها كبار المسؤولين و ذوي المناصب العليا في المنظمات الدولية والجامعات ومراكز البحوث .. نعم انها هي .. هي نفسها من استغربت وجودها وحدها في الطائرة ومن فارقتها في صف الجوازات في المطار وانا اخشي عليها من حاجز اللغه .. هي نفسها من حاولت تعليمها كيف تتحدث بالاشارة بأصابعها لأنني افترضت أنها لا تتحدث اللغة الانجليزية .. هي متحدثه رئيسيه في الجلسة الافتتاحية في مؤتمر عالمي لغته الرئيسيه هي الانجليزيه .. هي من تقبلت مساعدتي وابتسمت وشكرت دون أن توضح شيئ أو تعرفني بمن هي .. تعلمت درساً لن أنساه ما حييت .. تجربة لم تفلح كل الاوراق العلمية والتجارب العالمية في ذلك المؤتمر وفيما قبله وبعده أن تزودني ولو بجزء قليل من محتواها .. تعرفت بها بعد الجلسة ثم بعد ذلك قرأت عنها وقرأت لها وأدركت أنها بروفيسور لا يشق لها غبار في مجالها .. لم تذكر لي موقف المطار قط أو ربما أنها تغافلت عنه كي لا تحرجني، فتغافلت أنا كذلك من شدة حرجي .. تعلمت ألا أحكم علي الناس من مظهرهم أو شكلهم أو سنهم أو أي قشور خارجية لا تحمل الا الانطباع الخاطئ والفكرة النمطيه .. أسأل الله أن يكون في تجربتي الفائدة للجميع.

الجزء الأول في العدد الرابع 15 سبتمر 21

زر الذهاب إلى الأعلى