المقالات

الإنسان السوداني

غريب هو الانسان السوداني.. أينما حل وارتحل وحيثما نزل واستقر به المقام وكيفما كانت وجهته وضغوط الحياة عليه ظل كما هو بصفاته النادره وقيمه الأصيله التي اختصاه بها الله دون الأمم .. قد تبدو قصتي اليوم بكاء علي الأطلال أو تذكير بصفات وأمجاد قديمه ومآثر يحزنني حد الحزن أن يزعم بعضهم في الوسائط أنها اندثرت وأن السوداني لم يعد كما كان، فتجاربي الشخصيه تقول غير ذلك ولكل منا تجاربه .. لن يتسع المجال لأحكي هنا عن ذلك الشاب السوداني في مدينة تورز في الغرب الفرنسي البعيد حيث لم اتوقع ان اصادف سوداني وكيف توقف أمامي بدرجاته والارهاق يبدو عليه وهو عائد من العمل، وكيف أصر أن يكرمني في منزله لولا ان اقنعته بصعوبه أن ظرفي لن يسمح، ذلك فقط لأنه عرف بالملامح أنني سوداني .. ولا عن السوداني الآخر الذي ابهرني بصفائه ونقائه ولطفه وكرمه هنالك في الصين .. ولا عن تلك الأسرة السودانية الأصيلة النبيلة في كارديف، ولا عن تلك ولا عن ذاك .. ولكن دعوني أحكي لكم كيف أبهرني هذه المرة في برايتون، المدينة الساحليه الأنيقة الرقيقة حيث يفصل بحر الشمال بريطانيا عن فرنسا .. وحيث الآثار الضاربة في العراقة منذ العصور البرونزيه .. الطقس هادئ وأشعة الشمس تزيد الشاطئ الجميل دفئاً .. وطيور النورس تحكي قصة أقوام وحضارات مرت من هنا .. القصة بدأت عندما قرر متخذوا القرار في منزلنا (العيال) التمرد علي الاجازة الطويلة الرتيبه وضرورة السفر الداخلي و الاستجمام قليلاً أيام عيد الأضحي .. بحثوا ومحصوا واختاروا الوجهة شاطئ مدينة برايتون .. السنين قلبت موازين السيادة في الأسرة بانقلاب ابيض ظهرت معالمه علي شعر رأسي مع أعراض أخري يسمونها هم بداية شيخوخه تندراً بي وأسميها أنا نضج تجارب وعراقه، أصبحوا هم من يقرروا كل شيئ يخص الاجازة من حجوزات وترتيب الاقامة وكل تفاصيل الرحله، وأصبحنا أنا وأمهم نلعب دورهم القديم وبنشوة عاليه واستمراء للتغابي وادعاء عدم المعرفة بهذه الاجراءات المعقدة و الحجوزات والترتيبات الفنية الدقيقه التي ننتظاهر بأن جيلهم فقط هو الذي يعرفها ونجهلها نحن، هذا الادعاء والتغابي منا يجعلهم يجتهدون أكثر ويشعرون بأهمية دورهم ويبالغون في الغرور والفلاحة، فكلما (تفولحوا) (تبوهمنا ) وكل ما (تبوهمنا) زادوا ثقة بأنفسهم فننتهز نحن السانحه ونترك لهم القيادة ونستمتع بالرحلة وبخدماتهم الجليله وعطفهم علي هذا الثنائي (الغلبان) المغلوب علي أمره فنتركهم يقوموا بكل شي ونحن نكتم الضحك والفرحة شعوراً بنجاح استراتيجيتنا و (فهلوتنا).. لم يتركوا ملاهي ولا العاب ولا شواطئ ولا معالم سياحية ولا مطاعم الا و لقنوها درساً لن تنساه .. أظهروا روح أخري وكأنهم ليس هم من سافرنا معهم قبل عدة أيام .. سحرتهم وابهرتهم اشياء كثيره في برايتون وشاطئها ومعالمها .. المدينه بشاطئها الجميل ومعالمها العريقة فعلاً ساحره ومبهره بالنسبة لهم .. ولكن بالنسبة لي فما سحرني وأبهرني فيها معلم آخر لم تحتويه قائمة المعالم الشهيرة في هذه المدينة ولا خرائطها السياحيه كما لم تحتويه خرائط مدن كثيره حول العالم .. ألا وهو الانسان السوداني .. انه معلم يستحق أن يُزار بل وان يُتبرّك فيه .. كما هو لم يتغير ولم يتبدل .. يسعدني ويبهرني دائماً أينما صادفته، اخلاق وتواضع وشهامة ومروءة وإيثار علي النفس .. في اليوم الثاني من وصولنا قرر متخذوا القرار الا نستعمل السيارة وان يكون يوماً للتمشي والرياضة، ورغم علمي بقسوة القرار عليّ وعلي (الكاشف اخوي) لكني سعدت به، فبجانب فوائده الصحيه هو فرصة لي أنا تحديداً لأتحرر من ضغوطات القيادة والتركيز في الطرقات وتفويت الكثير من المناظر والمعالم التي يستمتعون بها هم .. بعد يوم طويل من الحركة المتواصلة من تسكع علي الشاطئ الجميل و زيارة بعض المعالم وقليل من التسوق أخذ منا التعب ما اخذ وأدركنا أن قرارنا ترك السيارة في الفندق كان خاطئاً وبدأنا رحلة البحث عن تاكسي ولم نتوقع ان عدد أفراد الاسرة قد يقلل من فرصة ايجاد تاكسي في هذه المدينة التي تعج بالناس من كل حدب وصوب .. عندما أعيانا البحث وتضاءلت فرص الحصول علي تاكسي تحركنا راجلين نحمل اجسادنا المرهقه ومشترياتنا التي كلما نظرت لها أدركت انني محق في عدم محبتي للتسوق .. لم نقطع بضع خطوات وعلي غير المتوقع الا وأطل تاكسي من بعيد وبحجم يسعنا ولدهشتنا أنه غير مشغول في يوم ووقت كانت فيه كل التاكسيات اما ممتلئه او لا تسعنا .. رفعت يدي بيأس وانقطاع عشم في ان يتوقف لأن المفترض أصلاً أن نتصل ونقوم بالحجز مسبقاً، ولدهشتي بدأ يخفض سرعته ربما قبل ان ارفع يدي.. توقف في مكان يصعب الوقوف فيه وكأنما هنالك شيئ أجبره علي توقف اضطراري .. ترجلت نحوه و دون ان اركز في السائق كثيراً أو أتبين شكله أو جنسيته بادرته بالسؤال Could you please take us to …. Hotel .. لم تفاجئني اجابته باللغة العربيه وحسب ولكن ما فاجأني انها بالدارجية السودانية (يا زول انتو ماسكين الدرب غلط، انتو ماشين عكس اتجاه فندقكم) .. ركبنا التاكسي وأحسسنا كأننا في بيت سوداني، فكعادة السودانيين أينما يلتقون تعرفنا بسرعه رغم قصر المسافة وبلطف سوداني مازَح ابننا الذي أخبرناه انه كان يقود الفوج في الاتجاه المعاكس وسارت الامور بصورة عاديه الي أن وصلنا الفندق فلم يتوقف وانما واصل واستدار حول منطقة الفندق ليعرفني بالطريق الصحيح ومن اين نخرج في المرة القادمه ومن اين ندخل، فعل ذلك بعفوية وتلقائيه تنبئ عن مروءة متجذره و همّة عاليه ورغبه عجيبه في المساعده، هو يشرح لي ويوصف ويوصي وأنا أكاد أحبس دموعي التي تخونني عادة في مثل هذه المواقف، سعادتي دائما عظيمة كلما تكررت المواقف وأكدت لي ان السوداني ما زال بخير .. بعد أن اطمأن أننا عرفنا الطريق ولن نتوه مرة أخري رجع بنا وتوقف أمام الفندق .. أعطاني رقم هاتفه وطلب مني الاتصال به متي ما احتجته أو في اي زيارة أخري لبرايتون .. شكرته وأخرجت نقودي وهممت أن أدفع له، نظر لي نظرة كأنما يلومني ويؤنبني وقال لي (يا أخي بسيطه أنا ما حا آخذ منكم أجرة .. حاولت اقناعه بأن هذا عمل ولا يمكنني ألا أدفع له أجرة، ففاجأني: (يا أخي أنا أصلاً لم اشغل العدّاد) .. لم يشغل العدّاد لأنه عرف اننا سودانيين، غير أن عدّاد الشهامة والاصالة والمروءة السوداني لم يتوقف قط .. لجأت لكل ما استطيع من وسائل الاقناع لاقناعه ان يأخذ أجره فباغتني بضربته القاضيه قائلاً: يا اخي أنا متأكد انك أنت لو كنت مكاني وأنا مكانك برضو ما كنت حا تاخد مني أجرة) .. أي حسن ظنٍ هذا .. أي انسان وأي شعب هذا .. كيف نفعل الخير ونفترض بل ونجزم أن الآخرين يفعلون كما نفعل .. أي كرم وشهامة وإيثار .. أي نقاء وصفاء وطيب سريرة وحسن ظن .. بقدر ما حزّ في نفسي وأحرجني انه لم يأخذ أجرته، بقدر ما أسعدني ولم يدهشني أن السوداني كما هو ما زال بخير، لم تغيره الحياة ولم يسلبه الزمن أجمل خصاله ..

زر الذهاب إلى الأعلى