المقالات

نحــيب الجـدران

ذات مساء من العام 2008م، كنا نتجاذب أطراف الحديث مع بعض الأصدقاء، حول ما وصل إليه الحال بمشروع الجزيرة، ومن المناقشات التي جالت بخاطري في ذلك المساء، ما قصّهُ علينا أحد الرفاق، بأنه وأثناء مروره بأحد المكاتب التي كانت تخصصها إدارة المشروع لسكن المفتشين الزراعيين قد رأى منظراً أدمى فؤاده ، وأثار في نفسه لواعجاً وشجوناً لماضٍ مرتب وجميل .
حدثنا ذلك الصديق ، فقال أنه كان يمر على ذاك المكان، فرأى راعياً لأغنامٍ، وهو في أحد صالات ذلك المبنى المتهالك، منهمكاً في تحطيم بعض الأخشاب المتناثرة هنا وهناك من بقايا النوافذ والأبواب، بغية الحصول على وقود للنار التي اشعلها لصنع كوب من شاي الحليب.
هذا المشهد الذي حكاه لنا الصديق، كان كافياً لإستفزاز ذاكرتي الخربة، وإجبارها على الغوص في أعماق ودهاليز الماضى، لإستعراض خاطف لمجسم المبنى وتجسيده أمام ناظري من جديد ، والذي كان يُطلق عليه (السرايا) أو (بيت المفتش)، كنا ونحن صبية لا نغامر أبداً بالإقتراب من ذلك (الحِمى) الذي يفوق في سطوته ورهبته (حِمى كُليب بن ربيعة في زمانه) ، حيث كان المكان يتوشح بهيبة المفتش الإنجليزي الذي غادره منذ زمان غابر لم نعاصره ، ويطابق تماماً الصورة التي رسمها لنا الآباء والأجداد في إحترام هذا الموقع وقدسيته.
لم تكن غايتي من الإشارة إلى هذا الوقف، النيل من ذلك الراعي في رعونة تصرفه أو إهماله الناتج عن جهله ، وإنما الإشارة إلى سخرية الأقدار التي جعلت من هذا الطلل البالي مسرحاً لمشهدٍ كئيبٍ ينم عن كُفر بواح بالنعمة التي خلفها لنا المستعمر الإنجليزي، والفوارق في نظم الإدارة وأوجه التباين حول ثقافة التعامل مع المال العام بين المحتل وإبن البلد و كيفية المحافظة على الأصول والممتلكات التي تعود ملكيتها للشعوب وليس الأفراد .
منذ أن وعت عيني على الدنيا، وأنا أرى وأرقب سيرة العهد الإنجليزي بزاوية حادة وضيقة جداً لا تتسع لرؤيةٍ منصفةٍ أو متكاملة، كانت نظرتي وأنا لا زلت يافعاً، ألاّ أرى من الحكم الإنجليزي إلا (الضرائب الباهظة وسوء المعاملة في جمعها) أو (إغتيال ضباط حركة اللواء الأبيض عبد الفضيل الماظ وعلي عبد اللطيف) أو (إختناق المزراعين بعنبر جوده بالنيل الأبيض)، إلا أنني عندما نضج تفكيري، إتسعت زاوية الرؤية عندي وأصبحت أكثر عدلاً وإنصافاً، رأيت من خلالها نظم الإدارة الحديثة بمشروع الجزيرة، أكبر مشروع زراعي مروي بإفريقيا والشرق الأوسط، أرقب المباني العتيقة العنيدة في تصميمها وهي تمد لسانها ساخرة في وجه عوامل التعرية وسوء إستخدام الإنسان. تحسست خطوط السكة الحديد، وهي تربط أطراف الوطن من شماله إلى جنوبه، من شرقه إلى غربه، تساعد في دفع عجلة التنمية والتطور، تنقل الركاب والبضائع، محمّلة بالمؤن والغذاء .. رأيت الأعمدة وهي تحمل أسلاك الهاتف الثابت لتساعد في سهوله الإتصال حتى على مستوى القرى والأرياف.. الخ.
حينها أطرقت رأسي خجلاً، ومما زادني حرجاً وكِدت أهم بالإختباء وراء نفسي ، أن من ساهم في تدمير كافة المشاريع العظيمة هم بنو جلدتي ، أما الآن وبعد أن توقفت الآيادي العابثة وتهادى للناس خيط من سنا فجر جديد ، هل نحلم بعودة السرايا (وكلابا الهوايات كما يقول شاعرنا ود بادي) من جديد .. وهي تمثل عين إشرافية لإدارة المشروع .. تراقب وترصد وتتابع وتنصح وترشد وتذلل العقبات التي تعترض طريق العملية الزراعية وتخرج بالموسم الزراعي إلى بر الأمان.. أم أننا سنردد ما قاله جورج جرداق شعراً، وغنته كوكب الشرق لحناً ..
وديارٌ كانت قديماً ديارا .. سترانا كما نراها قفارا ..
فاصل:
تناهى إلى سمعي أن نفر كريم من شباب ولاية الجزيرة (بعون ذاتي دون أي دعم حكومي) قد شرعوا في كتابة تصّور متكامل لإعادة تأهيل وترميم وبناء مكاتب التفتيش الزراعي وبيوت المفتشيين الزراعيين (السرايات) وإعادتها إلى العمل …. إن صح ذلك .. فإننا بكل تأكيد نسير في الإتجاه الصحيح ، وعلى موعد مع غدٍ واعدٍ يحمل في طياته ما إندثر من صفات جميلة تحت ركام العهد البائد .

زر الذهاب إلى الأعلى