المقالات

قــــرار نقـــل

كنت ارقبه عن كثب وقد بدأ على قسماته بعض الضيق هو يتناول بالسرد المراحل الأولى من الدراسة (الإبتدائية والمتوسطة) .. قال لي أنه قد تلقى تعليمه الإبتدائي فقط في خمس مناطق من السودان .. أما المتوسطة فقد حالفه التوفيق بأنها كانت في منطقة واحدة ..
رغم أنه قد نما إلى علمي عدم رغبته في مواصلة الحديث عن هذا الموضوع ..إلا أنني لم أتركه وشأنه لأن فضولي كان يضيق علي الخناق في معرفة سبب هذه المسيرة التعليمية القلقة .. أشرت عليه بالذهاب إلى المقهى المقابل لداخلية عنجة بمدرسة حنتوب الثانوية والذي تعودنا الجلوس عنده للترويح من الجو الأكاديمي.. أومأ بالموافقة على مضض .. خبثي يكاد يقفز من إنسان عيني وأنا ارافقه حيث أردنا.. واصلنا حديثنا .. وهو يحدق في حبيبات السكر وهي تدور حول نفسها لتفنى في منقوع الشاي على إثر تلاعب المعلقة بها.. كدرويش ظل يدور في حلقة ذكر ثم يتناثر شيئا فشيئا ليسبح في الهواء ثم يتبخر فتخور قواه ويقع منهكا على الأرض .. ثم مضى بالقول ..
ابوي كان موظف حكومة وإنت بتعرف كيف أثر التنقلات على إستقرار أسرة الموظف .. عشان كده بديت أقرأ الإبتدائية في ودالمنسي .. وبعد مرور السنة الأولى .. جاء أمر نقل لوالدي فكان على أثره إنتقالي للدراسة بمنطقة فارس الكتاب ..ثم بعدها إنتقلنا بأمر الحكومة وفقا لمتطلبات عمل الوالد إلى كسلا ..هذا كله وأنا مازلت في السنة الرابعة من المرحلة الإبتدائية .. والتي لم يطب فيها المقام لوالدي كثيرا للمضايقات التي وجدها من زميله في العمل لأنه كان يحلم بترقيته لشغل ذات المسمى الوظيفي الذي يعمل به والدي .. لذلك إنتقلنا مرة أخرى لألتحق بالصف الخامس بمدرسة اروما الإبتدائية .. أما الشهادة الإبتدائية فقد امتحنتها من مدرسة المحيريبا لعدم وجود مدرسة بالقرية التي نسكن فيها .. وقد توفقت في إحراز مجموع مكنني من الإفلات من براثن محدودية المقاعد المخصصة للحاق بالمدرسة المتوسطة لوجود فصلين فقط لاستيعاب 50 طالبا من إجمالي ما يربو على الألفي طالب من حوالي عشرين مدرسة إبتدائية …
ويواصل حديثه:
. إنها كانت لحظة مرعبة وأنا أجلس بجواز المذياع ممسكاً بأرجل كرسي خشبي عتيق دون أن أتمكن من الجلوس عليه من فرط إنهياري… محدقا في سماعة المذياع في الوقت الذي تمر فيه بخاطري هواجس كثيرة ..كان في مقدمتها رهق والدي ومكابدته لظروف الحياة أملا في تعليم أبناءه .. والثاني هو المسيرة المشرفة لاخواني واخواتي بمضمار التعليم .. والثالث هو قلة عدد المقاعد المطلوبة لبلوغ المرحلة المتوسطة .. كل هذه الهواجس كادت أن تقضي علي قبل أن ينتهي المؤتمر الصحفي لإعلان النتيجة .. وكلما تأخر الحسم كلما إزددت إنهيارا .. أنظر إلى أبي وكأنه غير مهتم بأمر النتيجة لتخفيف الضغط النفسي المهيمن على روحي ..ولكنه في الواقع كان يحترق من فرط التوتر ..قالها بصوت متهدج ..
يا ولدي أرحم نفسك شوية وقوم أقعد في الكرسي ..
أطالعه وشفاهه تتحرك دون أن اسمع ما قاله .. وددته لو يؤجل عطفه وشفقته إلى ما بعد إعلان النتيجة .. وما أن نطق المذيع إسمي ضمن الناجحين حتى إرتمى جسدي بكامله على الأرض ولم أحس إلا بوالدي وهو يحضنني بدفء وأنا ابلل ثوبه بدموع الفرح ..
قبل أن يواصل حديثه ..نظر إلي ليعرف إن كنت أتابعه بالإستماع أم لا ، فلم أجد بُدا من أن أشيح بوجهي للوراء متعللا برد التحية على زميل آخر ..في الوقت الذي إمتلأت عيني دمعا حتى أتمكن من إزالته دون أن يلمحني..
وقلت .. وطيب مالك اتغيرت لمن سالتك عن الموضوع ده؟
واصل حديثه وهو يميط اللثام عن سر ضبابة الحزن التي علت وجهه..
.. يا اخي إنت ما جربت شنو تهاجر من بلد بعد ما عرفت ناسها وكونت فيها صداقات .. ما حسيت إنه عشرتك مع ناس تنتهي بورقة ..إنت عارف أمر النقل بمثابة حكم إعدام لاستقرار أسرة ..كموج البحر يمحو ما نكتبه على رماله في مده وجزره لنعاود نكتب مرة أخرى ..لا موج البحر بفتر من المسح ولا نحنا بنحرم نكتب من جديد..
رنت عباراته المشحونة بالشجن والتبريح داخل طبلة أذني وأنا أتأمل تيار حياته المتمرد المعربد الذي لا يمل من حمل المفاجآت غير السارة .. أرثى لحاله وهو يطالع دفتر ذكرياته الممزقة. .. تارة في الشرق وتارة أخرى في الغرب .. أتأمل مشاعره المبعثرة على أرصفة الطرقات مع اختلاف البقاع .. على الرغم من كسبه الكثير من العلاقات إلا أنه قد كتب عليه أن يحمل هذا الشجن ولواعج الشوق من بلاد إلى أخرى .. ويتوجب عليه مع وصول كل قرار نقل أن يرتب مشاعره واشواقه ويحزمها مع أمتعته قبل الرحيل..
ألتفت إليه وأنا أحاول أن انتشله من كهف ذكرياته بالمزاح ..وكنا قد درسنا بالأمس ..الثبات الكيميائي.. قائلا:
معناها يا أخوي إنت محتاج لإلكترون واحد في مدارك الخارجي عشان تستقر وتصل لمرحلة الثبات الكيميائي وتبقى زي إخوانك العناصر الخاملة ناس الهيليوم والنيون .. وضحكنا ضحك طفلين غريرين معا ..
وانصرفنا..

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى