المقالات

فرحة العيد

فرحة العيد لم تعد هي فرحة العيد .. الوجوه هي الوجوه .. الأماكن ليست هي الأماكن .. وأنا بعض شيئ من هنا وبعض شيئ من هناك .. الزمان، أغسطس 2020، عيد الأضحي .. المكان، شارع ايدجوار روود وسط لندن، قريباً من ماربل آرش والهايدبارك كورنر وصولاً لأطراف المدينة الصاخبة المتقلبة المزاج والأجواء .. أيام المَهاجر ليست بينها أعياد والغربة قدر محتوم .. زخات المطر كانت في وطني تأثرني .. كل قطرة ماء كانت لي، الآن هنا ما عادت تعنيني، حتي همبريب الصباح الذي كنت أعشقه ما عاد يسحرني والعيد في غربتي لم يعد هو العيد .. في ركن قصي من المقهي العتيق جلست أنا وحدي وفنجان القهوة نيل أزرق، جلسوا علي ضفته هنالك أقصي الدنيا بالتكبير والحمد والتهليل يحيون صلاة العيد .. انزويت أنا هنا أكابد أحزاني وغربتي وبعض اشجاني وأطياف بعيده وشيئ من حنين وذكريات .. ذكريات العيد القديمة تسيدت مخيلتي وسافرت بي عبر الزمن رجعت بي بعيداً الي هناك .. الزمان، 1979، وقفة عيد الأضحي (التيسوعه) .. المكان، قرية حالمه علي أحضان النيل الأزرق تتكئ .. وسط السودان .. انتظر الطفل كثيراً قدوم ذلك اليوم .. المسافة بين قريته وودمدني كم هائل من الأماني والوعود والأشواق والأجندة الخفية .. حلواني تساهيل، باسطة سنترال، حديقة وقيع الله، المراجيح، كسوة العيد وقائمة طويلة من الأمنيات التي قد تتحقق في ذلك اليوم أو ربما يتم ترحيل بعضها لأجندة الشهر القادم حسب ترتيب الأولويات .. شارع اتجاه واحد كما كان يسمي حينها يبدأ من جامع الصايم وسط ودمدني ويمتد شمالاً حتي يعانق النيل علي مرأي ومسمع من حنتوب في الضفة الأخري، وما أدراك ما حنتوب .. دكان البهارات بالقرب من سينما الوطنيه .. سيل من الخواطر والذكريات .. ورقة كراس تم تطبيقها طولياً بعنايه وشيئ من الاصرار لتكفي سطورها وتحتوي كل حاجات الشهر .. خط أمه الذي لا يشبهه خط وحروفها التي لا تشبهها الحروف .. قائمة طويله كتبتها بيدها بحبر الصبر ومداد التعب وصمود الكبرياء: (ملوة بصل، اطناشر رطل زيت سمسم، خمسطاشر رطل زيت فهد، كروسة كبريت، عشرين علبة صلصه، صندوق ظهره، معجون ابو صفقه، كيلو عدس، اتنين كيلو رز، سكر، شاي حب، سته ورقات شعيريه، وقية حلبه، تلاته ورقات مكرونه، ربع رطل بن، خمسه كيلو دقيق فيني، صابون فنيك، باكنج باودر ، ربع رطل كسبره، كربونات، قرفه وجنزبيل وهبهان، صبر ورضا ويقين وايمان) .. قائمه طويله من المقاضي و راتب ضئيل قد يتجاوز او لا يتجاوز منتصف الشهر .. تعب ورهق وصبر ورضا وتوكل .. وعدد من الأفواه الصغيره تنتظر لا تدري كيف تأتي حاجات الشهر ولكنها تعلم انها حتماً ستأتي .. برندة ذلك الدكان كانت منبر وملتقي لأسماء رنانة ولها وزنها العائلي في ذلك الزمن، أصغرهم سناً كان أبوه .. رغم فارق سنه نسبياً لكن كانت لأبيه كاريزما غريبه حجزت له مكاناً بينهم وجعلت منه رقماً مهماً في ملفات كثيره لذلك المجلس العائلي الدائم الانعقاد .. ينصت الطفل أحياناً لأبيه ومجلسه فيفهم أشياء ويجهل أخري ثم ينشغل بوجوه المارة جيئة وذهاب أمام الدكان .. كل ما كان يعنيه حينها أن تتحقق وتستكمل اجندته فيعود الي المنزل ولم ينقص من بنود القائمه شيئ .. دكان الملابس ليس ببعيد وعلي بعد خطوات .. خطوات بحجم هدوم العيد .. طاقات القماش تكاد تعانق السقف، وسقف احلامه يرتفع ثم ينخفض تبعاً لمفاوضات السعر ويفتح الله ويستر الله .. الوان من الأقمشه واشكال وانواع من الترفيره والاسموكين والكرمبلين والتيترون والسيلك والدمورية والدبلان تخلط أوراقه وتزيد الاختيار صعوبة، فتارةً يختار هذا اللون وتارةً أخري ذاك .. لبسة العيد تم اختيارها بعنايه من طاقة قماش اسموكين بيجي منقوش بورود رماديه صغيره .. هو لا يحمل هم الخياطه فمكنة الصبر والتعب والعطاء تنتظر هنالك في البيت، خيوط الحب تحيكه باتقان ومهارة وحنان قميصاً للعيد .. بنطلون العيد كان من قماش الكرمبلين البني عليه خطوط بيضاء مائله يميل قلبه معها زهواً وفرحاً بلبسة العيد .. مكنة الخياطة ظلت تعمل منذ قبل مجيئه للدنيا، لم تشتكي ولم تتعب قط، وحينما تعبت لم تشتكي بل رحلت بهدوء، رحلت أمه بلا استئذان .. حاجات الشهر وهدوم العيد لم تتأخر قط، وحينما تأخرت كان قد رحل أبوه هو الآخر .. بهدوء .. بلا استئذان .. وفنجان القهوة نيل أزرق ما زال يأثره، ترسو علي ضفته أحزان وإيمان .. ويقين ..

زر الذهاب إلى الأعلى