المقالات

رحلة إلي نيروبي

القصة التي أرويها ليست من نسج الخيال ولا هي قصة رواها لي أحدهم، بل هي واقعة حقيقية حدثت لي قبل أربعة عشر عام، ظللت كلما أتذكرها أفكر في كتابتها ونشرها حتي تعم فائدتها الآخرين ويتعلم غيري من تجربتي ومن الدرس الذي تعلمته أنا جيداً، ولكن ما أن أشرع في كتابتها سرعان ما أجد نفسي انشغلت و انصرف عقلي عن تدوينها، لست أدري هل هو الشعور بالحرج من الموقف نفسه أو ربما هو هروب من مواجهة فكرة الحكم المسبق والتنميط السلبي التي مارسها عقلي حينها .. اليوم وأخيراً أقنعت نفسي وعقلي أن تدوين هذه الحادثة مهم وضروري حتي لا يقع غيري فيما وقعت فيه أنا حينها.
الجزء الأول:
في العام 2007 توجهت مبعوثاً من مقر عملي بالرياض-المملكة العربيه السعوديه للخرطوم للمشاركة في ورشة عمل ليوم واحد حول مؤشرات الفقر وتأثيره علي أوضاع الأطفال الأقل حظاً والمعرضين للمخاطر في منطقة الشرق الاوسط وشمال أفريقيا ( MENA)، ومن بعدها كان علي أن أسافر في اليوم التالي لنيروبي بكينيا للمشاركة في مؤتمر نظمه الاتحاد الدولي للدراسات العلميه للسكان (IUSSP) وبرغم رغبتي في البقاء قليلاً في السودان والسفر خارج الخرطوم للقاء الأهل والاستمتاع ولو لساعات بالبلد الا أنني كان علي أن أغادر في اليوم التالي، فتوجهت للمطار ما بين شوق وحسره و رغبة في البقاء من ناحية وواقع يحتم علي كبت مشاعري والامتثال لما يمليه قدر الغربة والارتحال من ناحية أخري. صعدنا الطائرة الكينيه وكان غالبية الركاب من الأجانب ما عدا أنا وعدد قليل جداً من السودانيين لم اتفحص وجوههم جيداً ما عدا امرأة كبيرة في السن ترتدي الثوب السوداني الأبيض بكل وقاره وكبريائه وتحمل ملامح وقسمات المرأة السودانية مواليد الثلاثينات أو بداية الأربعينات وكل ما تحمله ملامح ذلك الجيل من الطيبة والالفة والتراحم والحشمة الممزوجة بالقوة والارادة وبكل القيم النبيله والعزة والوقار، هي ملامح تراها و تري فيها كل أم وكل حبوبه وكل خاله وكل عمه و تنبئ عن تفاصيل كثيرة وعميقه لذلك الزمن الجميل، ملامح وتفاصيل أعادتني لأيام عشناها في بداية الثمانينات ومقتبل التسعينات حينما كان السودان بخيره ولم تكن صعوبات الحياة وقسوة المعيشة قد طغت بعد وأرهقت كاهل العباد وسلبتهم أبسط مقومات الحياة الكريمه واغتالت فيهم الأمل بسودان علمونا في المدارس انه سيكون سلة غذاء العالم .. تلك الايام حينما كنا نرفل في خير و عز بلادنا ونعيمها و رخائها من داخليات حنتوب الجميله بكل شموخها الي مجانية التعليم بل ومجانية الحياة في جامعة الجزيرة وغيرها من الجامعات السودانيه قليلة العدد حينها عالية الجودة، جودة ووفرة كانت تسود كل جوانب الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسيه والتنمويه، وهذا شأن آخر أتركه لغيري يبحر فيه ويسبر غوره.. جلست المرأة المسنة في مقعد ليس ببعيد من مقعدي، وجلست أنا أراجع ورقتي التي تم تضمينها ضمن أوراق الجلسة الأولي في المؤتمر وهذا يعني انه لا وقت كثير لدي لمراجعتها بعد وصولي .. لست أدري لماذا شعرت بنوع من الطمأنينة والأمان لوجود هذه المرأة المسنة في الطائرة، لست باختصاصي نفسي ولا روحي ولكني أجزم انها العاطفة والحنين لأمهاتنا وحبوباتنا من جيلها والتعلق بهن واسقاط عقلي الباطن لكل ذلك علي شخصها.. فوراً بدأت الكثير من الاسئلة تجول في خاطري: أتري من هي هذه المرأة المسنة المسافرة وحدها لبلد ليس فيه الكثير من السودانيين؟ أتراها مسافرة لأحد ابنائها او بناتها العاملين في المنظمات الدوليه والاقليميه الكثيره المنتشرة في نيروبي؟ أم أنها ذاهبة لزيارة أقارب لها؟ أم أنها العادة السودانية الجميله باستقدام الأم لحضور وضوع ابنتها في الغربه؟ أم تراها؟ أم تراها … ؟؟ اسئله كثيره يطرحها عقلي لا ارادياً دون ان ينتظر اجابه .. رويداً رويداً بدأ النعاس يداهمني فأطفأت اضاءة المقعد واستسلمت لنوم عميق نتيجة تعب وارهاق السفر المتواصل

في العدد القادم
الجزء الثاني
في نيروبي …..

زر الذهاب إلى الأعلى