المقالات

التجاني سعيد: أطل من غير ميعاد وغادر من غير ميعاد

«كانت هذه الفتاة جارتنا وكانت تكبرنى بسنين قليلة وقد أحببتها جملة وتفصيلا أما هى فلم تكن تعبأ بى جملة وتفصيلا وقد توددت إليها ببعض الأشعار فكأنما كنت أقدم إليها معادلات رياضية أو عبارات هيروغليفية وبذلت كل الجهد لتلتفت إلى فلم تفعل ، لقد كانت هزيمة لى بكل المقاييس وكانت هى القصة العاطفية الثانية التى أحتسى فيها مرارة الحرمان وفى اليوم الذى قدم فيه الأستاذ محمد وردى هذه الأغنية على الهواء مباشرة كانت هذه الفتاة تشاهد التلفاز فى بيتنا مع أسرتى فلما ذكر وردى إسمى قبل تقديم الأغنية إلتفتت إلى بدهشة شديدة وقالت لى هل أنت المقصود فقلت لها «طبعا» فقالت لى وفيمن كتبت هذه الأغنية فقلت لها فى واحدة من جاراتنا فتبسمت ولم تزد على ذلك وكانت هذه الإبتسامة هى كل ما نلته من قصة حب وثقتها هذه الأغنية ، شاع الخبر بعد ذلك أن التيجانى كتب هذه الأغنية فى فلانة فكنت أحس أنها راضية بهذا الأمر ولكنها فى الوقت ذاته لم تبد أية مشاعر إيجابية نحوى فعلمت ساعتها أن الشاعر ولو كان النابغة الذبيانى لا يمكن أن يستحوذ على قلب فتاة بشعره ولو حدث ذلك فسيكون لإنسانيته فقط» الشاعر التجاني سعيد

شاعر علي تخوم الفلسفة هكذا يبدو لي التجاني سعيد الذي إستطاع (كبسلة) مشاعر جياشة في عبارات سارت بها الركبان.
عندما لحن وردي أغنية الشاب اليافع التجاني سعيد «من غير ميعاد» ساهم من حيث يدري في تدشين خط جديد للشعر الغنائي أو القصيدة القابلة للتلحين وليست قابلة للتدجين.
وقد بلغ الشعر الدارجي الملحن شأوا بعيدا عندما تناول العملاق وردي القصيدة الثانية التي تداولها المستمعين تحت إسم «قلت ارحل»
هناك عوامل عدة ساهمت في التطور الذي تمظهر في شكل لغة جديدة سهلة ممتنعة في تلك الفتره فقد كانت المنافسة الضارية بين المطربين الكبار وبحثهم عن الجديد من العوامل المؤثرة جدا في مسار الأغنية السودانية
فكان موعد وردي مع الدوش ومحجوب شريف ثم التجاني سعيد.
وهؤلاء مع آخرين شكلوا الحلقة التي سعت لإستيعاب كل التراث الغنائي السوداني وجعله يواكب المستجدات سوا في مسار التلحين أو الكلمة.
أطل التجاني سعيد في سماء القصيدة المرمزة بكثافة واضعاً نُصب عينيه أن لا ينزع عنها رومانسيتها. فكان له ما أراد, إذ وجدنا أنفسنا أمام قصيدة ذات رافدين رومانسية رقراقة وترميز يذهب بنا بعيداً حتي أقصي تخيلاتنا مع صب معاني هائلة في عبارات رشيقة مموسقة.
ترك التجاني سعيد أثراً لن يُمحي في طريقة بناء القصيدة الدارجة. هو كغيره من أبناء جيله إستعان باللغة السهلة المتداولة وأضفي عليها ظلالاً جميلة كبعد ثالث فطالعتنا أروع القصائد.
أستطاع التجاني أن يجدل بسلاسة لغة لم تكن مطروقه كقصيدة سهلة ممتنعة تحمل في طياتها لحنا بديع
قلت أرحل
وأشيل خطواتي من زولا نسي الإلفة
أهوم ليل وأسافر ليل
أتوه من مرفأ لي مرفأ
حتي يقول
رحلت وجيت
في بعدك لقيت كل الأرض منفي
وهاهي الإزدواجية التي توجد إكتناز القصيدة العابرة للأخيلة طويلة الأمد تتبدي كأبهي مايكون. في مهارة فائقة وقدرة لا متناهية إستطاع أن يدس الوطن بين السطور. فالحب ليس وقفا علي مشاعر متأججة وأنما هو وعي والتشبية بالبعد عن الوطن أي المنفي يدل علي عمق التعلق بالأثنين الوطن والحبيبة.
ولم يكتفي بذلك فالوطن يئز بين جوانحه مما يجعل الكثير من الثراء يتكشف
عيونك ذي سحابة صيف تجافي بلاد وتسقي بلاد
أليس الوطن الحبيبة مفهوم يمكن أن يستقر بين هذه الكلمات بسهولة
وذي فرح البعيد العاد
التوصيف لا يتمسك بالحسي وإنما يتجاوزه للمعنوي السامي، غزارة تدفق الأحاسيس تنتج تلميحات أو فلنقل تشبيهات تتجاوز المألوف.
العوده أذاً لوطن والتشبيه يخص عيني الحبيبة …يا للإزدواجية المحببة التي
نقلت الأغنية إلي مصاف الأغنيات الكبار.
وفي خصر هذه القصيدة يقول: وذي وطنا وقت أشتاقلو برحل ليهو من غير زاد ….. ياللروعة العشق لايتجزأ أبدا
مسصطسحباً عشق الوطن الذي يندس بين السطور كجذوة تظل متقدة بلا همود أنتج شعرا ذا مذاق مختلف.
التجاني رفد القصيدة الدارجة بلغه فخيمة كانت عصية عليها فساهم مع الكثيرين في نقلة نوعية للقصيدة الدارجة. لكنه بدأ للبعض كأنه تسلل تسللا لساحة الشعر ثم إنسل مره أخري مارقا كأنه علي عجله من أمره. وهذا إنطباع خاطئ فالتجاني شاعر غزير الإنتاج له الكثير من الأشعار بخلاف هذه القصائد التي وجدت طريقها للتلحين ودونكم ديوان (قصائد برمائية).
التفرد في لغة التجاني الشعرية هو في إستعانته بطرق جديدة كالتساءل الذي تشوبه الحيرة… واللغة المتداولة في الونسة العادية…وغير ذلك من الأساليب.
قلت أرحل تبدو كإستئذان لأول وهلة ثم يتبدل الإنطباع ونحس بانها قرار صارم لارجعة فيه ورويداً رويداً يتبدل الموقف بدفق كثيف من اللوعة المخلوطة بالحنين. عبارة من كلمتين لخصت حالة عشق فريدة تتميز بإزدواجية… تُكسبها ثراءاً غير محدود فقد كبسل يأسه وحزنه في كلمتين.
أستطاع التجاني سعيد بمايشبه الصدمة… التحليق بالشعر الغنائي عالياً وجعل مابعده مغامرة غير مضمونة العواقب. فالقصيده حيناً يكتنفها غموض جذاب وحيناً آخر يعتليها يسر في التناول دافق. الترميز الكثيف وثنائية الوطن والحبيبة وقدرته علي النحت علي الكلمات، شكلت ما يشبه الإنفجار في طريقة بناء القصيده حينذاك.
التداخل بين الإنسياق العاطفي والكسرات التي يتخللها الوطن جعلت الوطن المشبه به كتنامي للإحساس الكثيف بدأ الوطن هنا كمسار يلامس المسار الأساسي وحدث تداخل خلاب
التجاني سعيد وصف عيون محبوبته باوصاف قلما وردت في وصف المحبوبات، فالتشبيه غير مجسم يتعدي التشبب بالاجساد وإنما يشبه وعي الشاعر بالجمال لايمكن أن يتصاعد إلا والوطن يتخلله. فهو المتجاوز للتجسيم كحاله معنويه تتخطي المرئيات !!!! يشق طريقا يزينه بمايشبه التصوف في العشق.
ألا يبدو في بحثه عن الجمال الموازي كإبتعاد عامد عن طريقة التوصيف التقليدية الغارقه التشبب!!!
علي كل حال لم أجد وصفا لعيون أجمل من هذا الوصف:
عيونك ذي سحابة صيف
تجافي بلاد وتسقي بلاد
وذي فرحا يشيل من الشقا ويزداد
وذي فرح البعيد العاد
وذي وطنا وكت اشتاقلو
برحل ليه من غير زاد
ياللتجذر والعمق والقدرة علي إرتياد المعاني العصية
وحتي في ختام هذه القصيدة
بدون عينيك
بصبح زولا بدون ذكري وبدون ميلاد
إلا يقترب التجاني هنا بشده من وعينا بالوطن ؟

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى