المقالات

القدال قصيدة إسمها (حليوة)

كان مشهد وداع القدال من أكثر المشاهد تأثيرا لكل من شاهده، ولعل الوداع المفعم بالفجيعة والعرفان والإعتزاز لخصّته الكلمات التي ظلت ترن في جنبات مطار الخرطوم، وقد حدّد مستقبلي جثمان القدال بدقة متناهية الأحاسيس التي تنتابهم، فهم مدينون للرجل بالمساهمة في صنع وعي أجيال وأجيال عبر الكلمة القريبة الي أنفسهم،
لذلك توجوه بإكليل من النزاهة ونظافة الكف والعفة والسمو
فخاطبوه كأجمل مايكون:
ماك الوليد العاق
لاخنت لاسراق
ولعمري هذا أروع خطاب يمكن أن يخاطب به الرجل الذاهب إلي مثواه الأخير، ولعل الكلمات المنتقاة بعناية لم تكن مصادفة، فقد كانت لرفيقه الراحل محجوب شريف، الذي يشاركه النشأة والعشق الكبير، فمحجوب أيضا أنجبته الجزيرة الخضراء، وقريته لاتبعد كثيرا عن «حليوة» الحلاوة.
مشروع القدال الشعري، مشروع كبير، متنوع ومتجانس،
فالقصيدة عنده تتعدّي حاجز اللغة المكتوبة، فهو أحيانا مصور بارع، وأحيان وأحياناً أخرى رسام ماهر، وفي بعض المشاهد الشعرية بنّاء لايشق له غبار،
فطول نفس القدال في البناء الشعري لا تخطئه العين، فهو لا يستعجل إنهاء البيت الشعري بالقافية، بل يترك له العنان بحيث تكون الأبيات فسيحة لا يمكن التنبوء بكل ما تحمل من بشريات وقناديل معرفة ومقارنات وجدل فصيح. الأبيات عند القدال حقول تمتد علي مدّ البصر، تماماً كما في الجزيرة. ولعل أكثر ما يميز شعره هو الإيماءات المشحونة بالغبن أحيانا وبالأمل أحيانا أخرى وبجرعات الوعي أحيانا أخرى.
ومسار القدال مسار طويل، فالناظر لتاريخ الرجل يصعب عليه الإمساك بالبدايات، كأنه كان موجوداً منذ الأزل. وكما كانت «كرمكول» نقطة إرتكاز الطيب صالح، كانت «حليوة» مركز إلهام القدال، «حليوة» التي تمثل وطنا يئن ويضحك في آن؛ «حليوة» العشق الطفولي والمسادير والاحتفالات اللامتناهية والصبا؛ «حليوة» التي ترفع مناسيب الحنين في أشعار القدال فتجعله في مصاف الأشعار عابرة اللغات، فالمكان هنا يتعدّي المكان المحدود بخطوط بصرية، بل يمتد ليشمل بلدا بكامله، المكان يأخذ لون الغبن والدهشة والإحتمال والبكاء والفرح المجدول بالقدرة على العطاء، المكان عند القدال يتعدّي الاحاطة، فهوهنا يمثل تراكم التجارب وتطور مجسات الإدراك وإحتدام التفاصيل.
عندما تستمع للقدال أحيانا تكاد أن تجزم بأن الرجل يقترب كثيرا من شعر المربعات «الدوبيت»، لكنك سرعان ما ستفارق هذا الأنطباع، وإن كان هناك شبه واضح، لأن المساحة الواسعة في أشعار القدال تجعله يتعدُي هذا التصنيف، وإن لم يخلُ منه.
ولعل في شعر القدال إختزان لكم هائل من اللغة المندثرة، فنجده يستخدم اللهجة الآيلة للاندثار وينفخ فيها روحاً، ومع ذلك كان، ومازال مقروءا للكل. قد يكون إنحياز القدال للكادحين وألآمهم سبباً في مدّ خط رؤية يتجاوز اللغة الغارقه في محليتها.
وكما كان القدال شاعراً فذاً قادراً على نشر الوعي الكثيف، كان بسيطاً ومعطاءً قريباً من الكل بجميع فئاتهم، فهو المعروف بعلاقاته المتشابكة مع كل الناس من العاملين في المنطقة الصناعية حتي زملاء صالونات ورش الأغنيات الشهيرة، ومن جيرانه في «أمبده» حتى صغار العاملين في كواليس التلفزيون، فقد كان دائم الحضور في أفراح وأتراح الشعب السوداني.
القدال رفيق الدوش ومحجوب شريف وحميد وأزهري محمد علي والتجاني حاج موسي وهاشم صديق،
القدال عرّاب مجموعة عقد الجلاد الغنائية وصاحب مصطفي سيداحمد.
القدال البهيّ الحضور العميق المعرفة بمشارب واخلاقيات الشعب السوداني، الأصيل المتمسك بسودانويته في كل تفاصيله: «يابلدي ياحبوب أبو جلابيهة وتوب وجبة وصديري سيف وسكين».
«حليوة» حاضرة في شعر القدال قديمه وجديده، أي منذ قصيدته: «كلام الرتينه بت سالم ود عتمان في حنة علي الشاشوق»، وقد سمّى الديوان الذي كان أول غيثه «غنوات لحليوة».
من منّا لم ترجه قصيدة «طواقي الخوف» رجّا. من منا لم تجعله قصيدة «أمونة» يراجع قدرته علي إلتقاط نداءات الشعر المحببة ويطوّر ذائقته. ففي «أمونه» تجّلت مقدرة القدال علي السبك وتدفقت ترع وجداول الجزير في داخل كل منّا: «الفرح جاييك وعد»، أليس الوعي قدرة علي الإحاطة بمقدرة الناس علي التغيير، أليس الوعي إيمانا بالشعوب القادرة علي العطاء. «أمونة» كانت قصيدة للتجديد رغم إرتكازها علي لغة تجاوزها الشعر العامي، ما أروع قوله:
وانت في خوفك تكاتل عينة الجلبت خريف
وانت في اللالوبه مصلبة البنيات النسيمات الهفيف
وانت في اللالوبة مشنقة الوليدات
ناس نجومي ومحبس النفس الرهيف
في استدعاء للتاريخ الدامي إلى أن يقول: «بطنك كرشت غي البنات نافي دقنك حمست جلدك خرش مافي»،
كأنه يمتص رحيق القصيدة المعروفة في الشهيد «عبدالقادرودحبوبة»، ليفرز شعراً لم يتأتَ لغيره،
و»الجهادية» في هذه القصيدة كانوا حضوراً في كل المشاهد، منذ ماقبل التاريخ وحتى الذين تم اسقاطهم في ديسمبر ، وسيستمر الصراع حتى يرث الله الأرض. ومن طرف خفي، ينبهنا الرجل المكتنز بالمعرفة للمسكوت عنه في تاريخنا، مع أنه مجّد البطولات في شقٍ آخر من القصيدة التي بدت كتاريخ مكتوب لم يلوّثه المتسلطين.
وفي قصيدة «مسدار أبو السرة لليانكي»، تجلّت قدرة قدرته على تنميط الأحداث وصنع مشاهد موازية لها، فهو في هذه القصيدة، كرفيقه حميد، يعتمد علي جعل الشعر القصصي أداة لزرع المعرفة، وقد بلغ أعلي مراتب الإدهاش في قوله: «اطلع مني ياجلدي المنمل جني واطلع مني يا حزني البقى مكجني»، ويُلاحظ هنا ثراء المفردات وعراقتها، وأيضا أن «حليوة» تتسلّل من بين الكلمات كأروع ما يكون. وقد عالج في هذه القصيدة الأطماع في ثروات الشعوب، وتمدّد الرأسماليات الكبيرة، وكلمة «اليانكي» يراد بها «الامريكان» بالتحديد أذرع الراسمالية المنتشرة في كل بقاع العالم.
القدال كان ملتزماً، لم يخفِ إلتزامه يوما، لكن إلتزامه لم يكن معوّقا بقدر ما كان محفزّا له للتمدد وسط الجماهير والإقتراب من الهموم العامة.
ولعل القصائد التي تم تلحينها وغنائها من شعره هي التي وجدت حظاَ اوفر في الذيوع والإنتشار مثل «طواقي الخوف» و«حليوة» وغيرهما.
الداخل لعالم القدال المترامي الأطراف لن يخرج منه كما أتاه، فالرجل سيترك أثراً لن يُمحى في كل من يحاول الإقتراب من أشعاره، ولعل كل منا وبعد أن ودعنا ودّعناه قائلين: «ماك الوليد العاق» نتحسّس «حليوة» التي تخصنا، ونستنجد بمشاهد صبانا لنطرد البؤس الجاثم على الطرقات الآن، ولكن أجمل ما سنحمله معنا من أشعار ذلك الرجل المتزن هو ان نستزرع فينا إيمانا لا يخبو ببعضنا البعض وقدرتنا علي التحرّر .

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى