المقالات

يابا مع السلامة…قصيدة تحمل سمات شعب بأكمله

محجوب شريف شاعر سوداني مواليد 1948 بقرية أب قدوم ريفي المسلمية. تلقى تعليمه بالمرحلة الأولية والوسطى بين أعوام 1958م حتي 1962م في مدارس المدينة العرب ثم معهد مريدي للمعلمين بالخرطوم. وتخرج معلماً في 1\4\1968م وتوفي في 2 أبريل 2014 في أم درمان بمرض التليف الرئوي.

دائما كنت أعتقد أن قصائد الراحل محجوب شريف كالقاطرات..ففي قصائده نجد التصميم الثوري والقدرة علي المناورة والصمود الشامخ والقناعة التي لا تتزعزع
بالشعب المعلم كمايدعو الراحل بني جلدته
كما أن قصائد محجوب شريف (القادم من الجزيرة الخضراء) كانت دائماً وأبداً كنبض الشارع تلخص حالنا في الحل والترحال.. في الحزن والفرح.. في العشق والنضال
حالنا عندما يجثم علي صدورنا سفاحاً يسّومنا أصناف العذاب ويجعل بلدنا الحنون سجناً عملاقا
فقصائده تبدو وكأنها تقود الركب تبدو وكأنها تسير بلا توقف نحو هدف منشود هدف واضح الملامح .
أهازيجه الثورية رددها القاصي والداني وكتبت كشعارات علي الجدران وكتبت علي الشاحنات بل أنها بدت في كثير من الأحيان وكأنها تسير بيننا تشحذ الهمم وتشعل السخط علي المتسلطين وتتحدث بفصاحة منقطعة النظير عن أحوال العالم (التحتاني).
لكن الراحل محجوب شريف في قصيدته الأثيرة لدي جل الشعب السوداني والتي رثي بها الراحل محمد إبراهيم نقد كانت وما زالت مفصلاً هاماً من مفاصل الشعر الثوري الذي لا يتراجع عن مبتغاه مهما كانت العوائق ومهما كان قدر الذين ترجلوا عظيما. فمطلع القصيدة يبدو كصدمة، لقد بدأ محجوب القصيدة من الذروة
يابا مع السلامة
في الحزن المطير
وهذه البداية هي أقصي الحدث الدرامي الذي من أجله كتبت القصيدة. البداية التي تصلح كنهاية في بناء أي حدث درامي لكن محجوب شريف يتمرد علي المألوف ويدلق حزناً كثيفاً من أول بيت ثم يبدأ في بناء القصيدة بشكل يحمل شحنة موسيقية وامضة وهو في هذا المضمار بنّاء ماهر قلّما وجد مثله.
وعلي عكس شعر الرثاء بدأ في ذكر المآثر بعد أن وصل القمة كأنه من القمة في طريقه للسفح
يا كالنخلة هامة
قامة واستقامة
هيبة مع البساطة
وأصدق مايكون
وهنا تتجلي دقة محجوب شريف المجهرية في الحديث عن الراحل نقد وعن شموخه وقدرته علي الصدام وبساطته الشديدة وصدقه مع نفسه ومع الآخرين ولعل قربه من الراحل نقد جعله أقدر الناس علي وصف مآثره
هذه القصيدة قيلت وصدمة رحيل محمد إبراهيم نقد الذي يشبه جل السودانين في بساطته وقدرته علي النفاذ عميقاً في الأحداث وفي الأزمات التي تلم بالوطن تترك ظلالاً كثيفة علي كل شيء.. الشوارع والبيوت التي أحبها وأحبته…العمل العام الذي ترك عليه بصماته. فقد كان متفرداً في أدائه ومتفرداً في قدرته علي الصدام ومتفرداً في قدرته علي جعل الخصومة السياسية مساقاً لا يفسد للود قضية . ودونكم كلمات الراحل الإمام الصادق المهدي عنه عند رحيله .
(وقد أشفق الكثيرين علي حزب الطبقة الكادحة بعد الرحيل الفاجعة)
لكن قدرة نقد القيادية لم تكن قاصرة علي الحزب الشيوعي فالرجل كان قريبا من الكل
دمث الخلق حاضر النكتة صاحب قدرة هائلة علي الإحتفاظ بتوازن كلماته مهما كان الموقف
كان قريباً من كل الساسة تقريباً ومحبباً إليهم وكان قريباً من الشارع وكان قريباً من الذين يصنعون التغيير في كل شبر من بلادنا ولكن محجوب شريف كان قادراً علي الإحاطة بكل هذا الألق ولعله بلغ شأناً بعيدا في قوله
راحة إيديك تماماً مثل الضفتين
وللحقيقة لم أري وصفاً لرجل أروع من هذا الوصف ..هنا تتجلي مقدرة محجوب شريف في الرسم والتلوين والتجسيد والتصميم … هنا يعبر حاجز التقليدي العادي نحو آفاق رحيبة تكاد تكون له وحده
ومحجوب شريف قاد ثورات متتالية في القصيدة الدارجة من حيث طريقة بناءها ومن حيث أغراض القصيدة
خبزاً للذين هم لايملكون
بنفس البساطة والهمس الحنون
وهنا محجوب شريف لم يبالغ فالراحل نقد يتحدث كأنه يهمس رغم أن وقع كلماته قد يكون مؤثراً جداً وأيضا أورد صفة مصاحبة لنقد دائما وهي البساطة
ومنذ هذه البدايات يحاول محجوب شريف الاحاطة بموضوعه ولملمته
ترحل ياحبيبي
من باب الحياة لي باب المنون
كأنه سيلتقيه بعد حين كأن الحياة والمنون بابان متجاوران ، فمحجوب شريف يقول أنه لايرثي أحداً ممن تحدث عنهم في قصائده فهو علي قناعة تامة أن أمثال محمد إبراهيم نقد لايرحلون تماماً
فهم قد تركوا اثارهم علي كل شيء …..قارعة الطريق وطريقة تفكير الساسة ووسط حشود العمال وبين مقاعد الدرس وفي عمق الحقول وليؤكد هذا المنحي يلحق هذه الأبيات بتتمة قائلا
أبواب المدينه بتسلم عليك
والشارع يتاوق يتنفس هواك
والناس الذين خليتم وراك
عيونهم حزينة بتبلل ثراك
أنها التفاصيل التي يجيد محجوب شريف نظمها وجدلها كأبهي ما يكون فهي عنده تمثل روح القصيدة وبالتالي هي تعبر عن غرض أبعد، يتراءي من خلالها. فمحجوب ملك السهل الممتنع بلا منازع
يا حليلك حليلك يا حليل الحكاوي
تتونس كأنك يوم ما كنت ناوي
تجمع لم تفرق بين الناس تساوي
نارك ما بتحرق ما بتشد تلاوي
ما بتحب تفرق من جيبك تداوي
الحلم الجماعي والعدل إجتماعي
والروح السماوي والحب الكبير
يجب ملاحظة أن لهذه القصيدة قافيتان قافية متتالية بايقاع سريع وقافية أخري تبدو كرتاج لاغلاق كل حزمة شعرية بديعة ذات نفس طويل وأيضا مثل هذه الطريقة في البناء يبرع فيها الشاعر
وفي هذه الحزمة من الأبيات نتبين أن محجوب شريف الذي يتحدث عن محمد إبراهيم نقد يبدو وكأنه يتكلم عن أبي أبيك عمك جدك جارك رفيقك جدتك أمك فالحديث مألوف والوجوه نفس الوجوه والنقاء نفس النقاء والقدرة علي العطاء نفس القدرة علي العطاء
في الزمن المكندك والحزن الإضافي
جينا نقول نفرق نجي نلقاه مافي
لا سافر مشرق لافتران وغافي
وين عمي البطرق جواي القوافي
يا كرسيه وسريرو هل ما زلت دافي
ثم تتصاعد اللوعة في كلماته و(يجبد) الزمن كخلفية للوحة حزينة مستطردا في ذكر مآثر الراحل
وأبدع التفاصيل التي تدلق الحزن الغزير قوله ياكرسيه وسريره هل مازلت دافي
إلا يذهب بعيداً هنا فهو يريد أن يقول من الإشارة إلي سرير الراحل وبأنه مازال دافئ بأن بعض الناس لايرحلون حين يرحلون بل يبقون بيننا بما قدموه ويتعمق في التفاصيل التي كما قدمنا لايجاريه أحد في نظمها
يا مرتبتو امكن في مكتبتو
قاعد يقرأ وذهنو صافي
يا تلك الترامس وينو الصوتو هامس
كالمترار يساسق يمشي كما الحفيف
كم في الذهن عالق ثرثرة
المعالق والشاي اللطيف
ما أجمل التشبيه كالمترار يساسق يمشي كما الحفيف ياللإكتناز والتمدد في هذه الأخيلة المتقنة الصنع .
كلما قرأت هذه الأبيات تبدو لي حياة الراحل نقد كرحلة مفعمة بالصدامات الكبيرة. رغم أن محجوب شريف يبين لنا هذا في تفاصيل صغيرة علينا أن نمدها حتي أقصاها لنصعد إلي شاهق أقواله فالراحل نقد يبدو أحيانا كأحد عمال السكك الحديد وأحيانا يبدو كعامل يومية وأحيانا يبدو كفيلسوف يحلق في فضاءاته دون رفيق وأحيانا يتسامي كلحن بديع لعثمان النو. نعم محجوب شريف يستطيع أن يجعلنا ندنو من موضوع قصيدته ثم نجد أنفسنا قد أخذنا تيار الشعر الذي لا يداهن.
واجمل ماذهب اليه الراحل محجوب في نهايات هذه

القصيدة هذا المشهد الذي يجعلنا نراه عيانا
تصطف الكبابي أجمل من صبايا
بينات الروابي والضل الوريف
أحمر زاهي باهي يلفت انتباهي
هل سكر زيادة ام سكر خفيف
ينده للبنية يديها الحلاوة
والخاطر يطيب

ينده للبنية: أُبوة دافقة تتبدي كما كل الذين نعرفهم وهنا يمكنني أن أقول أن الراحل محجوب شريف يتحدث عن أغلب الذين نعرفهم في ملامح الراحل محمد إبراهيم نقد. التفاصيل الحبييبة إلي النفس التي تشكل حياتنا
علي كل لايوجد أبدع من هذا الاصطفاف الذي يلهب المشاعر …فهنيئاً للممدوح والمادح بهذه الأبيات التي لن تتكرر.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى