هوية خضراء

هوية خضراء

(عمود تحليلي يعني بقضايا هوية أنسان الجزيرة وما يتمظهر منها من أنماط سلوكية ومزايا وعيوب شخصية, فلا إظهار المزايا هو من قبيل الإطراء, ولا تسليط الضوء علي العيوب هو من قبيل الذم)

«سبق وطني: ذوبان هوية إنسان الجزيرة لصالح الهوية السودانوية»

مدخل
(1)
الليلة يستقبلنى أهلى
أهلي أهدوني مسبحة من أسنان الموتى
مصلاة من جلد الجاموس . . .
إبريقا . . . . جمجمة
رمزا يلمع بين النخلة والأبنوس
(د.محمد عبد الحى)
(2)
أنا من إفريقيا
صحرائها الكبرى وخط الاستواء
صلتني بالحرارات الشمـــــوس
وشوتنى كالقرابين على نار المجوس
أرهقتنى فأنا منها مثل عود الأبنـوس
(صلاح أحمد إبراهيم)

نص
تظل قضايا الهوية من القضايا الشائکة فهي تمثل الوجود المعنوي للإنسان ؛ و قد کان جدل وصراع الهوية من الصراعات القديمة قدم الإنسان…
في السودان تأرجحت الهوية شمالاً و جنوباً بين الأفريقانية والعروبة منذ مدرسة الغابة والصحراء ومن تبعهم ووثق لهم شعرا فکانت ”نخلة وأبنوسة“ …
وکما يوثق الفن للمجتمع وتفاعلاته کان التوثيق للغناء في مراحل سابقة قليلا؛ موثقة في الاقتباس التالي:”
في أربعينيات القرن الماضي، إبان الإحتلال البريطاني، تغنى عملاق الأغنية الوطنية السودانية، العطبراوي.. أنا سوداني أنا. يفخر فيها بانتمائه إلى شجرة العُرب، قبل أن يذهب بعيداً في تمجيد العروبة على عادة شعرائها. عملاق آخر من عمالقة الفن السوداني، الكاشف، أخذ طريقا مغايراً.. أنا إفريقي أنا سوداني، واضعاً السودان في إطاره الجغرافي“
« إنتهي الإقتباس_مصدر إسفيري“..

و رغم أن الإنقاذ کانت تشد خطام جواد السودان ليتجه شرقاً صوب أجداده من أبيه من بني العباس بعيداً عن أجداده أبناء النيل سليل الفراديس…»

المهم في سودان ما بعد الثورة إنتهي جدل الهوية لصالح السودانوية علي حساب العروبية و الافريقانية؛ و تم الإتفاق ضمناً علي إعتماد تلك الهوية بعيداً عن أي إتجاهات إثنية أو قبلية أو جهوية.
هذا الخيار الذي نادي به الکثيرون منذ زمن ونُفذ الآن, حادت عنه الإنقاذ کثيراً («وحاولت محو هوية السودان کان يسير علي قدمين في أرض الجزيرة الخضراء»…تتغير الي «ومحالتها محو الهوية السودانوية كانت تسير علي قدمين في أرض الجزيرة»). أرض الجزيرة الخضراء التي کانت تمثل سوداناً مصغراً وکان الکل يعيش تحت مظلة هذه السودانوية ويتمتع بکافة الحقوق کسوداني دون إقصاء جهوي؛ فالکثير من الولايات التي تعاني الجهوية يصعب أن يحکمها والٍ من خارج الولاية و لکن الجزيرة تعاقب عليها ولاة من کل جهات السودان الأربع….
و في سبيل تدمير الهوية السودانوية سعت الإنقاذ إلي إدخال إسم القبيلة ضمن بيانات الهوية الشخصية ؛ أذکر حينما کنا علي أعتاب التخرج؛ کان يتناهي إلي مسامعنا أن نذکر أننا ننتمي («إلي قبيلة»…هل المقصود إلي قبائل مُعينة) ….حتي يتسني لنا الحصول علي وظيفة!!! لم نکن معنيين بما هي قبيلتك وما هي قبيلة جارك وجميع جيرانك يمثلون جهات مختلفة من السودان و لکنها السودانوية المتجذرة ووعي الهوية السابق لأوانه وهو ما يحتسب لصالح إنسان الجزيرة بما يعتبر سبقاً وطنيا.
وعقب الثلاثين سنة الإنقاذية الحسوم التي سعت لتفتيت الهوية السودانوية لصالح الهوية العروبية تأثرت معظم مناطق السودان فأصبحت مهيأة للإحتراب القبلي, ففي الغرب صراع العرب والزرقة, وفي الشرق صراع النوبة والبني عامر وحتي في نهر النيل في دامر المجذوب أيضا كان الصراع بين النوبة والقرعان ما نتج عنه بعض القتلي لينبئ عن حجم تضعضع الهوية الموحدة بين جميع المكونات.
رغم كل ذلك فقد كانت الجزيرة صامدة إلي حد ما ضد صراعات الهوية رغم الإثارة المفتعلة لأسباب الكيد السياسي المعلومة للجميع، فلماذا صمدت تلك الهوية؟؟ ظني أن شخصية إنسان الجزيرة تعرضت لجرعات دينية مكثفة من كافة الإتجاهات، شرقاً من إتجاه الجزيرة العربية, وغرباً من الممالك الإسلامية من كانو ومالي, وشمالاً من دعاة شمال أفريقيا من علماء بني شنقيط. ساهمت جميعها في قبول الآخر وتعميق فكرة المساواة أمام الميزان الإسلامي. هذا علي المستوي الدين، أما علي المستوي الإجتماعي فنموزج التعايش بين مكونات الجزيرة الإثنية وقبول الآخر هو أشبه بالنموذج الأمريكي مقارنة بالتعايش بين مكونات القارة العجوز_أوروبا.

زر الذهاب إلى الأعلى